شياهو
في إحدى الليالي
الربيعية المقمرة المعتدلة الجو، أخذت أتمشى بين الأشجار الباصقة، أشتم
الورود الفواحة بأزكى الروائح العطرة، روائح الفل والأقحوان؛ فرح، غبطة،
سرور، كل هاته الأحاسيس غمرت فؤادي لتجعلني كطائر محلق في سماء سعيدة
وصافية، لكن بغثة !!! فإذا بفتاة منزوية في ركن مظلم من حديقة فأخذت اسألها
عما ساق بها ليجعلها تبدو كمن حمل على كتفيه أوزارا الزمن الثقيلة. فأجابت
بصوت محزن ومتشائم: أكره هذه الحياة الخادعة، أمقتها أشد المقت كلها مصاعب
ودواهي لانهائية، أكرهها لأنها لم تذقني سوى مرارة الأحزان، لذلك أتمنى
الموت على أن أحيا فيها ولو هنيهة واحدة، لأتخلص من طريقها الحافل بالأشواك
والأسى والأشجان.
فرددت عليها قائلة: لو كانت الحياة مثلما نطق بها لسانك
وعبرت عنه مشاعرك، كلها أحزان، لما خلقنا الله، لأن الله جل جلاله ولا
يتمنى أي مكروه لعباده، أو حتى يجعلهم يكرهون هذه الحياة أليس هو الذي منا
علينا بها. فلو أمعنا النظر في هذه الحياة لوجدناها آلاما ومآسي لكن ليس من
الجيد النظر في الجانب المظلم في هذه الحياة، لأن هناك جانبا مضيئا من هذه
الحياة، جانبا أشبه بشجرة السعادة الشامخة التي تنتظر من كل واحد منا أن
يجني ثمارها حلوة المذاق، فتذكي في غرفة أنفسنا القانطة قناديل الأمل
اللامعة. لقد سميت حياة لأننا نحياها مع ظروفها وأحولها بحلوها ومرها، فمن
البديهي أن أن حجارة الأحزان ستعرقل حتما مجرى حياتنا، لتعلمنا كيف نجد حلا
لمشاكلها، ولتعلمنا أيضا كيف نجد حلا لمفتاح سعادتنا التي أتلفته مشاكلها،
لنساهم في زرع بذرة ذاتية قوية ومروية بماء الخبرة، والانتفاع بتجربة
سالفة حاملة في كنفها حكم وعبر ثمينة. إن الحياة لا تريدنا أن مطلقا أن أن
نستسلم لكروبها، كي لا تتركنا يائسين واضعين على أعيننا نظارة قاتمة
الألوان لتسافر أروحنا إلى عالم المنايا متمنية الرحيل قبل أوانه. لكي لا
تهزمنا الحياة وتلقي بنا في غابة الضعف والهوان، يجب أن نتحلى بالإرادة
القوية وبالعزيمة الشديدة لأن من بعد الشدة الفرج، ومن بعد الأسى الفرح
فمهما اشتدت دجنة الأحزان الحالكة والسجف القاتم، فشمس السعادة ستشرق. لكن
لن يتحقق هذا الأمر إلا إذا تعلمنا كيف نجد مخرجا يسير من متاهة كل المشاكل
والصعوبات مهما تعقدت ممراتها، فالحياة حلوة ومرة في الآن نفسه، فلما كانت
زهرتها متعبة بجفاف الغم والأسى، لما كانت استعادتنا لصلابتنا والوقوف مرة
أخرى لمواجهة مصاعبها ليست بالأمر الهين. فتعلمي يا عزيزتي أن ريحها
العاتية تتطلب منا أن نتسابق معها كي ننظر إليها نظرة آملة متفائلة بمستقبل
زاهر ومعيشة راغدة لا تعرف لها لفظة القنوط طريق، فلن تهزمنا الظروف
القاسية طالت أو قصرت، فالله لم يمتعنا بنعمة العقل وحب الحياة إلا ليختبر
قدرتنا ويعودها على الصبر عند إصابتنا بمكروه، اختبار لإرادتنا، كي تتعود
هذه الإرادة على مواجهة مصاعب الحياة ومآسيها، والفوز بزهرة الحياة وان
نتمتع بطعم السعادة ونقطف ثمارالحياة صعبة المنالفما مفتاح الفرج إلا
نبراسالصبر الساطع الفائق اللمعان.
"من نصيحة براعتي والنصح أغلى ما يباع ويوهب"
فيا من يلفظ بنفسه في زنزانة الأحزان ويرسم لوحة حياته
بألوان الخريف، لا تنسى أن ألوان الربيع زاهية مشعة؛ بساتين الأمل والسعادة
اللماحة، لا تنسى زهرة حلوة تنتظر أن تقطفها، لكن لا تنظر إلى أشواكها
وأوراقها الباهتة الذابلة، بل أنظر إلى ما تحتمله بين جوانحها الطاهرة من
مسك وعوف أخذ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق